تخيل نفسك مسافراً عبر نفق زمني يمتد لآلاف السنين، حيث تتجسد اللغة لا كأصوات وحروف جامدة، بل كـجسر ضوئي يربط الحضارات ويعبر بالقارئ فوق تيارات التاريخ. هنا، في قلب بلاد ما بين النهرين الخصبة، يسطع نجم اللغة السريانية، الوريث الشرعي للغة الآرامية العريقة.فالسريانية ليست مجرد لهجة باقية، بل هي مستودع حي للذاكرة المشرقية بكل جوانبها. ولفهم أبعاد هذه المكانة المحورية في تاريخ المشرق، وتقدير الدور الذي لعبته اللغة السريانية كلغة علم ودين، لا بد من العودة أولاً إلى جذورها العميقة التي تتشابك مع نشأة الحضارات السامية في الألف الأول قبل الميلاد.الجذور الآرامية والنشأة الأولىالسريانية هي سليلة مباشرة للغة الآرامية، تلك اللغة التي نشأت وتطورت في الألف الأول قبل الميلاد، وتحديداً منذ حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وخلال عصور الإمبراطوريات، ارتقى شكلها ليُعرف باسم الآرامية الإمبراطورية، حيث أصبحت لغة البلاط الرسمية للإمبراطوريات الكبرى كالآشورية والبابلية والفارسية، ولغة التواصل المشتركة (اللينغوا فرانكا) في الشرق الأوسط القديم.نشأت السريانية كلغة أدبية وكتابية مميزة في منطقة محددة هي مملكة الرُّها (أورفا حاليًا في جنوب شرق تركيا)، حيث كانت تستند إلى لهجة الآرامية الشرقية المحلية، ولذلك يشار إليها أحيانًا باسم “آرامية الرُّها”. وتعود أقدم النقوش المكتشفة بهذه اللغة إلى النصف الأول من القرن الأول الميلادي.السريانية: اسم جديد لعهد جديدعلى الرغم من هذا الأصل الآرامي الواضح، اكتسبت اللغة اسمها الأبرز “السريانية” (Syriac) بشكل واسع بدءاً من القرن الرابع الميلادي تقريباً. هذا التحول لم يكن عشوائياً، بل ارتبط ارتباطاً وثيقاً بأهم تحوّل ثقافي في المنطقة:الارتباط بالمسيحية: مع انتشار الديانة المسيحية في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين، أصبح اسم “السريانية” يُستخدم لتمييز آرامية المسيحيين، التي تحولت إلى لغة أدبية ودينية غنية وراكزة، عن لهجات الآرامية التي ظلت تستخدمها المجموعات غير المسيحية، لا سيما الوثنية منها.التأثير اليوناني: لعب المصطلح اليوناني الذي كان يطلق على سكان المنطقة (سوريا) دوراً في ترسيخ هذا الاسم الجديد.العصر الذهبي والإسهامات الحضارية (القرن الرابع – القرن الثامن الميلادي)تحولت السريانية سريعاً، وعلى مدى القرون القليلة الأولى من العصر الميلادي، إلى لغة أدبية كلاسيكية ذات قواعد نحوية وصرفية راسخة. أصبحت الوعاء الثقافي لكتابة وتدوين الأدب المسيحي والترجمات المبكرة للكتاب المقدس، مما مهّد لدخولها “عصرها الذهبي” الذي بدأ مع القرن الرابع الميلادي.لم يقتصر ازدهار السريانية على موطنها الأصلي بين القرنين الثاني والثامن الميلاديين فحسب، بل عبرت الحدود مع حركة التجارة والتبشير. لتترك بصماتها الواضحة على امتداد جغرافية واسعة شملت حتى الهند والصين، مُشكّلةً بذلك إحدى أهم ركائز التراث المسيحي الشرقي، ومحتلة مكانة فريدة إلى جانب اللغتين اليونانية واللاتينية في سجل لغات العصور القديمة. هذا التوسع الجغرافي والعمق الديني أكسباها مكانةً فريدةً في سجل اللغات القديمة.ازدهرت اللغة السريانية كقوة ثقافية وعلمية خلال هذه الحقبة، التي تُعتبر العصر الذهبي لها، متخذةً مكانة رائدة في العالم القديم المتأخر.الازدهار الأدبي والدينيخلال هذه الفترة، تحولت السريانية إلى لغة أدبية كلاسيكية، مما أدى إلى إنتاج ضخم حيث شهدت هذه القرون إنتاجًا أدبيًا ودينيًا غزيرًا في مجالات اللاهوت، والتفسير الكتابي، والزهد، والشعر، كما برز فيها عمالقة الأدب السرياني، مثل أفرَهات الحكيم الفارسي ومار أفرام السرياني (المعروف بشاعرية نصوصه)، الذين رسخوا اللغة كأداة للتعبير الفكري العميق.نستطيع القول أن السريانية في هذه الفترة أصبحت القناة التي عبرت من خلالها الأفكار والمصطلحات اللاهوتية اليونانية إلى الشرق، بعد أن تُرجمت إليها أعمال آباء الكنيسة اليونانية.دور السريان في نقل العلوم (جسر الحضارات)لعب السريان دوراً محورياً في حفظ ونقل المعرفة الكلاسيكية، ليصبحوا جسرًا حضاريًا بين الفكر اليوناني القديم والعالم الإسلامي الصاعد. تمثلت إسهاماتهم في:حركة الترجمة الأولى: قام النساطرة واليعاقبة السريان بترجمة كميات هائلة من النصوص اليونانية الكلاسيكية إلى السريانية، خاصة في مجالات الطب، والفلسفة (أفلاطون وأرسطو)، والرياضيات، والفلك.تأسيس المدارس: ازدهرت مراكز التعلم مثل مدرسة الرُّها ولاحقًا مدرسة نصيبين، حيث كانت العلوم اليونانية تُدرَّس وتُنقَّح باللغة السريانية.الإسهام في العصر العباسي: مع ظهور الدولة العباسية، اعتمد الخلفاء على العلماء السريان، مثل عائلة آل بختيشوع، لقيادة حركة الترجمة الكبرى من السريانية (التي كانت تحتوي على ترجمات يونانية) إلى اللغة العربية في بغداد. وبذلك، نقل السريان تراث الإغريق إلى الثقافة العربية الإسلامية، مما كان له تأثير حاسم في نهضتها العلمية.باختصار، لم تكن السريانية مجرد لغة صلاة، بل كانت لغة بحث علمي وتأليف أدبي حافظت على شعلة المعرفة وأضاءت بها العصور اللاحقة.اللغة السريانية في العصر الحديث: تراث حي وتحديات البقاءعلى الرغم من أنها تجاوزت “عصرها الذهبي” منذ قرون، تظل اللغة السريانية في عصرنا الحديث شاهداً حياً على استمرارية الإرث الحضاري للمشرق، لكنها تواجه في الوقت ذاته تحديات وجودية معقدة. إن وضع السريانية اليوم يتميز بثنائية واضحة: فهي من جهة لغة طقسية خالدة ومصونة، ومن جهة أخرى، لغة تخاطب مُهددة بالانقراض في مواطنها الأصلية. هذا التناقض يضعها في اختبار تاريخي للبقاء والهوية.الاستقرار الليتورجي: حصن السريانية الكلاسيكيةيُعدّ الدور الليتورجي هو الحصن المنيع والأكثر استقراراً للسريانية الكلاسيكية (السريانية الفصحى) في يومنا هذا. لقد بقيت السريانية لغة الإيمان بامتياز، تُستخدم كلغة طقسية رئيسية في الكنائس الشرقية المختلفة، بما في ذلك الكنائس السريانية الأرثوذكسية، والسريانية الكاثوليكية، والكلدانية، والآشورية. إن نصوص الصلاة الأساسية، مثل “الأبون دبشمايو” (أبانا الذي في السماوات)، ما زالت تتلى باللغة التي يُعتقد أنها الأقرب إلى الآرامية التي تحدث بها السيد المسيح. وتلعب الكنيسة دور حاملة التراث، إذ تحافظ على المخطوطات والكتب المطبوعة، مما يضمن بقاء قواعد اللغة الفصحى ومفرداتها حية وموثقة في الممارسة الدينية.التوزع الديمغرافي: الآرامية الحديثة في مواجهة الاندثارأما الاستخدام اليومي للغة، فيتم عبر امتداداتها المعاصرة المعروفة باسم اللهجات الآرامية الحديثة. هذه اللهجات تشكل خريطة لغوية متوزعة:الآرامية الشرقية الحديثة (السورث): تنتشر بشكل أساسي بين المجتمعات الكلدانية والآشورية والسريانية في العراق وإيران وتركيا سابقاً، وهي اليوم تشهد تراجعاً حاداً نتيجة لعوامل الهجرة والصراعات.الطورويا (السورويو): تُتحدث بشكل خاص في منطقة طور عابدين بجنوب شرق تركيا، وتنتقل مع مجتمعات الشتات السريانية إلى أوروبا.الآرامية الغربية الحديثة: تقتصر اليوم على عدد ضئيل من القرى، مثل معلولا وبخعة وجبعدين في جبال القلمون بسوريا، لتكون شاهداً شبه وحيد على الفرع الغربي من اللغة.الضغوط الوجودية في العصر الحديثتتعرض اللغة السريانية، بجميع أشكالها، لضغوط هائلة تهدد بقاءها كلغة تخاطب حية. أهم هذه التحديات:الهجرة والنزاعات: أدت الصراعات والاضطهادات في الشرق الأوسط إلى نزيف ديمغرافي وهجرة جماعية للمتحدثين الأصليين إلى أوروبا وأمريكا، حيث تبدأ الأجيال الجديدة في الشتات بفقدان اللغة الأم لصالح لغة البلد المضيف.هيمنة اللغات الكبرى: في موطنها الأصلي، تتراجع السريانية لصالح اللغات القومية الأقوى (كالعربية والتركية والفارسية)، مما يحد من دمجها في التعليم العالي أو سوق العمل.الخطر الأكاديمي: يُصنّف اللسانيون معظم لهجات الآرامية الحديثة على أنها مهددة بالانقراض، ما يستدعي جهوداً مكثفة من التوثيق والبحث.على الرغم من هذه الصعوبات، تُبذل جهود حثيثة ومنظمة للحفاظ على هذا الإرث من قبل بعض الحكومات، التي بدأت لا سيما في إقليم كردستان العراق وبعض مناطق سوريا، في إدراج اللغة السريانية في المناهج الدراسية، كما شجعت على تأسيس أقسام أكاديمية متخصصة في جامعات مثل بغداد وأربيل.يضاف إلى هذا القنوات الفضائية والإذاعات الناطقة بالسريانية والمواقع الإلكترونية، التي تساهم في تداول اللغة المكتوبة والمنطوقة، مما يساعد في ربط مجتمعات الشتات باللغة الأم.في الختام، تعيش السريانية اليوم فترة حاسمة؛ فبينما تبقى خالدة كلغة مقدسة في الكنائس، تعتمد استمرارية وجودها كلغة تخاطب على نجاح جهود الحماية والتعليم في مواجهة موجات النزوح والتحديات اللغوية المعاصرة، لتظل جزءاً لا يتجزأ من النسيج الثقافي للمنطقة.
بقلم: باسل خليل ماهر
صحفي سوري حر


 
						 
						
لا تعليق