رسالة مارا بن سرافيون قبس حكمي من العالم السرياني
مقدمة
تُعد رسالة مارا بن سرافيون، نموذجاً فريداً من الأدب السرياني خلال الحقبة الوثنية، إذ يعود تاريخها بحسب تقدير الباحثين إلى أواخر القرن الأول أو أوائل القرن الثاني الميلادي، وهي حقبة امتدت يد الفناء) أو الفناء ( إلى معظم آثارها بعد اعتناق السريان للمسيحية. ولعل ما شفع بتلك الرسالة وأعلاها من مصير كثير من بنات زمانها ذكره فيها للملك الحكيم “الذي قتله اليهود”، والذي فسر على أنه إشارة للسيد المسيح.يذكر مترجم الرسالة الأول إلى الإنجليزية ويليام كوريتون )والذي نشرها ضمن المختارات السريانية عام ١٨٥٥(، أن المخطوط كان من بين ما حصل عليه الإنجليز من دير السريان في صحراء النطرون عام ١٨٣٤، ليصبح في ما بعد من محفوظات المكتبة البريطانية.ورسالة مارا نص حكيم عميق يقدم فيه المؤلف رؤيته للحياة الطيبة في مواجهة عالم مضطرب ومليء بالظلم والتقلبات، كتبها مارا أثناء أسره على يد الرومان، مخاطباً ابنه سرافيون، مقدماً له نصائح حياتية تتجاوز مجرد الإرشاد الأخلاقي لتلامس جوهر الوجود الإنساني ومعنى السعادة الحقيقية.ولا يخطئ القارئ إذا استشف من بين سطور الرسالة نفساً فلسفياً رواقياً، يمازج التشاؤم الحكيم، مضافَين إلى إشارات تدل على اطالع مؤلفها على السياقات الدينية الرائجة آنذاك، لتشكل هذه العناصر معًا منطلقاً متيناً، يدعو على أساسه الأب ابنه إلى الزهد في الماديات، والبحث عن الحكمة التي لا يفنى كنزها، والتحلي بالصبر والثبات أمام مصائب الدهر.لا نعرف عن مارا أكثر من أنه من سميساط، التي تقع ضمن الأراضي التركية اليوم، والتي خرج منها بولس السميساطي الشهير، وأنه وقع أسيراً في يد الرومان لأسباب سياسية على الأرجح، وأنه كان متجهاً إلى سلوقية (الواقعة في العراق اليوم) عند كتابته للرسالة.ومع أنه يصعب التأريخ لحياة مارا من هذه الإشارات العابرة، إلا أن ذكره لملك اليهود الحكيم ولخراب أورشليم، يضعه حتماً بعد عام ٧٢ ميلادية. هذا ويرى البروفيسور بروك في “تاريخ كامبردج للأدب المسيحي المبكر” أن كاتب الرسالة على الأرجح ابن القرن الرابع، ولا يستبعد أن يكون مسيحياً يدّعي الوثنية.الزهد في مواجهة عالم زائل يبدأ مارا رسالته مثنياً على اجتهاد ابنه في تحصيله العلمي ومسلكه الأخلاقي، ثم ينتقل للحديث عن حاله وحال غيره من الأسرى الذين سيقوا عنوة نحو سلوقية، تاركين الأهل والوطن، فلم يبق خلفهم إلا الذكرى وأمامهم إلا الخوف من الموت في أرض الأغراب.في هذه الظروف القاهرة يتأمل مارا الحياة فيعلن إدراكه العميق لفناء جميع مراحلها وزوال كل عناصرها: كل ما هو كائن هش، كل ما هو كائن زائل. وليس لكل ما في العمران الذي يأسر العين أية قيمة حقيقية:”علام يعتمد المرء؟ على أمالكه؟ وعن أي شيء يمكن الحديث كما لو كان باقياً؟أيعتمد على الرخاء والثروة؟ تلك أشياء تنتزع. على القلاع؟ تلك تهدم. على المدن؟ تلك تحال إلى خراب. على العّظّمة؟ تلك تذلّ. على المجد؟ وهذا يزول.على الجمال؟ وهو يذوي. على القوانين؟ وهي تتغير. على الفقر؟ وهو مكروه.على الأولاد؟ وهؤلاء يموتون. على الأصدقاء؟ وقد يكونون زائفين…”يظهر جلياً من هذه المقتطفات أن مارا ينظر بتشاؤم إلى كل ما هو مادي ومؤقت. فلا النسب ولا الثروة ولا الحصانة ولا الأبناء ولا الأصدقاء يمكن أن يكونوا ضمانة يواجه بها المرء عوادي الدهر. لذلك يدعو مارا ابنه إلى عدم التعلق بهذه الفانيات، ويحثه على البحث عن “الثروة الحقيقية” التي لا تفنى،وهي الحكمة والمعرفة. يقول مارا:”أما أنت، يا بُنيّ الصغير، فاختر لنفسك ما لا يزول، فإن المنشغلين بمثل هذه الأمور يُعرفون بالتواضع والمحبّة، وبحبّ السمعة الطيبة. وإذا اعترضك شرّ،فلا تلومنّ أحداً، ولا تغضب من الله، ولا تتذمّر من زمانك. فإنك إن استمسكت بهذا التفكير فلن تكون الهبة التي تنالها من الله قليلة. فهي لا تقوم على الغنى، ولا تقترب من الفقر، لأنك ستؤدي دورك في هذا العالم بلا خوف، وبفرح.”هكذا، نجد مارا ينحو نحو الرواقية إذ يؤكد أن السعادة لا تكمن في ما يمتكله المرء من أشياء، ولا في قدرته على التحكم بسير الأحداث، بل في ضبط ردود أفعاله تجاهها وقطع تعلقته بالمتغيرات الفانية وتربية النفس على الفضيلة والحكمة. فالحكيم هو ذاك الذي يجد السالم في ذاته لا في محيطه، يعيش هانئ البال بالحكمة التي لديه بغض النظر عن الظروف التي تتقاذفه.
فمهما اشتدت رياح الغِيَر، يقف الحكيم ثابتاً أمام المصاعب، راسخاً في أدائه لواجبه، مترفعاً عن اللوم والشكوى.يوضح مارا لأبنه أن الإنسان قد يجرد من ممتلكاته لكنه لا يمكن أن يجرد من حكمته متى ما نمّاها واستقر فيها، لذلك ينصحه قائلاً : “إسع إلى المعرفة أكثر من سعيك للثراء”. كذلك يشدد مارا على العواقب الوخيمة التي قد يجرها الثراء فحيث تكثر الثروات تكثر الرذائل. ومقابل كل خير أرضي يبرز السوء من حيث لا نرى، وكل مبذول في سبيل ثراء أرضي مبذول عبثاً فما نحن إلا عابري سبيل وما إقامتنا هنا إلا إقامة المرتحل. وعليه يشير مارا على ابنه بالكفاية: “فإن استطعت أن تعمل بغير مقتنيات،فإنك عندها ستسمى طيّباً ولن يحقد عليك أحد”.فجِد وراء المعرفة أكثر من سعيك إلى الثراء.
الحكمة طريق الخلود
يقدم مارا في النصف الثاني من رسالته فهماً خاصاً للخلود يتجاوز بقاء الجسد، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحكمة والفكر. فالحكماء بحسب مارا، خالدون رغم فناء أجسادهم: خالدون في أفكارهم وآثارهم وتعاليمهم التي تستمر في إلهام البشرية جيلاً بعد جيل.أما الأمم التي لم تقدر حكماءها حق قدرهم فكان جزاؤها السقوط والتشرذم. وفي هذا الجزء بالذات يورد مارا جملته التي ربما كانت السبب في حفظ رسالته إلى يومنا هذا: “ماذا جنى اليهود من قتل ملكهم الحكيم؟” وما جنوا إلا التشرذم والخراب. تماماً كما جنت ساموسا وأثينا على نفسيهما لقتلهما فيثاغوروس وسقراط… بالنسبة لمارا هناك رابط واضح بين اضطهاد الحكماء والعقاب الكوني الذي يلحق بمضطهديهم. والأهم من هذا أن موت الحكماء لم يكن إلا بالجسد، الحكماء عند مارا خالدون.ومفهوم الخلود عند مارا يختلف مفهوم الخلود المعتاد (في الأديان التقليدية مثالاً) فهو ليس خلود الروح ولا هو حياة أبدية في عالم آخر بعد موت الجسد. الخلود الذي يقترحه مارا خلود ثقافي، تستمر به أفكار الحكيم ونهجه وتأثيره في العالم من خلال تلاميذه وأعماله. وهذا النوع من الخلود لا يتأتى إلا للحكماء،وكأن الحكمة تمنح أهلها نوعًا من الحصانة ضد الفناء وخلف القول بخلود كهذا دعوة إلى السعي لإنشاء إرث فكري دائم، بدلاً من السعي لبناء مجد شخصي زائل.لا يقتصر نقد مارا على المدن الفاقدة للبصيرة الأخلاقية، بل يمتد إلى نقد الطبيعة البشرية ذاتها فيُبرِزُ بؤس الطبيعة البشرية في وصفه ميل البشر إلى اتباع شهواتهم وتجاهل الواجب الأخلاقي، ما يقودهم إلى حياة غير ذات بصيرة. كما يرى أنهم “لا يعرفون الاعتدال، وقلما يمدون ايديهم الى الحق والفضيلة”. وهنا يربط مارا الفضيلة والعدل، فطالما أن الإنسان مشيح وجهه عن الفضيلة سيبقى بعيداً عن العدل:”إن الناس تجاوزوا حدود الحق، وتعدّوا كلّشريعة خيّرة، إذ استسلموا لشهواتهم.فمادام الإنسان يشتهي ما تهفو إليه نفسه، فكيف له أن يعمل بالعدل، أو يفعل مايليق به؟ إنهم لا يعرفون الاعتدال، ونادرًا ما يمدّون أيديهم نحو الحق والفضيلة،بل يسيرون في حياتهم كالصمّو العميان.”والجدير بالذكر أن التصور الأرسطي للفضيلة هو أنها وسط بين إفراط وتفريط، أي أنها العدل بين نقيضين كلاهما رذيلة. هذا هو التصور عينه الذي يطالعنا به مارا: يجتذب الإفراط والتفريط الناس فيبتعدون عن العدل.الحكمة سلوك لا نظريات في نهاية رسالته يؤكد مارا لأبنه أن الحكمة لا ليست ترداد أقولاً فطنة ولا تكرار أفكار ذكية، إنما هي العمل والسلوك: إنها نمط عيش كامل. عندها تصبح الحكمة وأباً وأماً وركناً ومستقراً وسنداً في الشدائد،ودرعاً من اليأستلك الحكمة عينها هي التي يجسدها مارا في أسره إذا يطل علينا متصالحاً مع ما ابتلاه به الزمان، واعياً لحقيقة أن المنتصر بالقوة خاسر والمظلوم منتصر بالحق. فما العنف الذي يعاملهم به الرومان إلا شهادة على الرومان أنفسهم، وما انتصارهم إلا عار وخزي. ورغم كل تلك المآسي، يبقى مارا منفتحاً على التسامح، غافراً للرومان كل ما عاناه على أيديهم إذا ما أحسنوا معاملة الأسرى وأعادوهم إلى ديارهم.
خاتمة
تُعد رسالة مارا بن سرافيون وثيقة حِكَميّة غنية، تقدم رؤية متكاملة للحياة الطيبة في عالم مليء بالشرور. فمن خلال دعوته إلى الزهد في الماديات، والبحث عن الحكمة ككنز لا يفنى، والتحلي بالصبر والثبات، يقدم مارا لأبنه، ولنا، خارطة طريق للعيش بكرامة ومعنى. إن مفهوم الخلود الذي يطرحه،والذي يربط البقاء بالبصمة الفكرية والتأثير الروحي، يتجاوز المفاهيم التقليدية للموت والحياة، ويؤكد على قوة الأفكار والتعاليم في تشكيل المستقبل.تُظهر الرسالة أيضاً نقداً حاداً للطبيعة البشرية المائلة للشر والجهل، وتُبرز كيف أن اضطهاد الحكماء غالباً ما يؤدي إلى عقاب الظالمين من خلال عدالة كونية لا مفر منها. إنها دعوة للتأمل في دور الإنسان في هذا العالم، ومسؤوليته تجاه تنمية الحكمة والفضيلة.على الرغم من مرور قرون عديدة على كتابتها، لا تزال رسالته تحمل ذات مغزى حتى في عالمنا المعاصر. ففي زمن تتسارع فيه وتيرة التغيرات، وتتزايد التحديات، وتتفاقم الأزمات الوجودية، تظل دعوة مارا إلى البحث عن الحكمة الداخلية، والتحرر من قيود الماديات، والتحلي بالصبر والثبات،مصدر إلهام لكل من يسعى إلى حياة ذات معنى وهدف. إنها شهادة على أن الحكمة الحقيقية تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتبقى منارة تهدي البشرية إلى خالص، لا في عالم آخر، ولا في زمان مؤجل،بل هنا والآن


مقال اكثر من رائع ومفيد
الشكر موصول لاتاحة هذه الفرصه لإثراء الفكر والروح معا