المانوية وأسطورة خلق العالم


ترتكز فكرة المانوية في المُجمل على ركنين أساسيين:الركن الأول: الثنائية فالمانوية تبدو بصورة ما شكل من أشكال الغنوصية وإن اختلفت أفكارها كثيرا عنها، فالمانوية تؤمن بثنائية العالم؛ فتقول بأن وجود العالم يعود إلى أصلين لا أصل واحد وهما: عالم النور وعالم الظلام. الركن الثاني: الغنوص أو العرفانتعد تلك المسألة كذلك من العلامات المميزة التي تجعل من المانوية شكلا من أشكال الغنوصية، فالعرفان أو الغنوص هو ببساطة محاولة الإنسان التحرر من قيود الجسد والعالم المادي، والكشف عن الجزء النوراني أو الروح التي تربط الإنسان بالإله الحقيقي، وذلك عن طريق الكف عن ممارسة الشرور الأرضية، والبعد عن الشهوات الجسدية وكل ما يخص الجسد والوصول إلى الخلاص. فكان أن أرسل الله الرسل لمساعدة البشر في الخلاص والتحرر من ربقة الجسد.ما سبق يمكن توضيحه وفقاً لأشهر الأساطير المانوية وهي أسطورة خلق العالم والغرض من ذلك الخلق وفقا لمعتقدات المانوية، وسيكون وجهتنا في ذلك كاتب سرياني أخر هو ثيودوروس بار كوني (ܬܐܕܘܪܘܣ ܒܪ ܟܘܢܝ) (1) وهو مفسر سرياني مسيحي من رجال القرن الثامن الميلادي، لا نعلم عنه تفاصيل كثيرة سوى أنه ألف كتاب باللغة السريانية سنة 792م سماه “كتاب اسكوليون (Scholion)”، وهو كتاب تعليمي يتكون من 11 فصلا، وفي الفصل الحادي عشر منه كتب ملاحظات هامة عن بعض الهرطقات ومن بينها المانوية. وبقراءة هذا الفصل يتضح أنه خلص بأن تاريخ العالم وفقا لمعتقد المانوية ينقسم لثلاث مراحل، انتهيا منهم اثنتين الأولى والثانية وبقيت واحدة وهي المرحلة الخاتمة لتاريخ العالم. وأما عن المراحل الثلاثة فهي كما يلي في إيجاز: (أ) المرحلة الأولى الانفصال بين العالمين (عالم النور، عالم الظلمة): ففي البدايات الأولى كان الوجود عبارة عن عالمين منفصلين تماما، هما عالم النور وعالم الظلمة حتى أن ماني رسم مُخطط توضيحيا لما بدا تصوره لتلك المرحلة الأولى. فكان يقف على رأس عالم النور أو العالم النوراني (عالم الروح) ما أطلق عليه ماني (العظيم الأول)، في حين يقف على رأس عالم الظلمة (عالم المادة) ما أسماه (ملك الظلام)، فيقول ثيودوروس بار كوني:”يقول [ماني] أنه قبل وجود السماء والأرض وكل ما فيهما، كانت هناك طبيعتان، أحدهما صالحة والأخرى شريرة. سكنت الطبيعة الصالحة في مملكة النور، وقد سماها “أبو العظمة”. وكما يقول إن الشاكيناه [هي لفظة عبرية تعني خادم أو تابع] مساعديه الخمسة سكنوا عالمه: العقل، والفكر، والبصيرة، والخيال، والضمير. أما عن الطبيعة الشريرة فقد سماها “ملك الظلام” وأنه سكن في أرضه المظلمة مع عوالمه الخمسة: عالم الدخان، وعالم النار، وعالم الهواء، وعالم المياه، وعالم الظلام.” (2)(ب) المرحلة الثانية الامتزاج بين العالمين: كانت الشرارة الأولى لتلك المرحلة قد بدأت من عالم الظلام، فلتحطيم ذلك الانفصال السابق سعى ملك الظلام المادي في الصعود واختراق عالم النور، وبعد تفاصيل كثيرة ترتب على صعود ملك الظلام إلى عالم النور أن حدث أمرين عظيمين:الحدث الأول: هو خلق العالم المادي. الحدث الثاني: خلق الكائن الذي جمع بين صفات العالمين وهو الإنسان (أدم وحواء) (3). كان الهدف المحوري لملك الظلام من الحدثين أن يسيطر عالمه على عالم النور بنشر الشر والفساد والمادة، ولن يتسنى له ذلك إلا بواسطة الإنسان، فكان أن حجَمَ الإنسان في الجسد المادي ليبعده عن النور. في حين كانت رغبة العظيم الأول في نشر الخير، وتحرير الإنسان من ربقة وعبودية الجسد إلى عالم الحرية عالم النور، لذا فإنه كان يُرسل من لدنه كل فترة من الزمان رسولا ليرشد الإنسان إلى عالم النور. وتمثل هؤلاء الرسل في كل من بوذا، زرادشت، والمسيح وكان أخرهم ماني كما أدعى هو ذلك في القرن الثالث الميلادي.(ج) المرحلة الثالثة الانفصال الثاني بين العالمين: وهي المرحلة الختامية للعالم إذ يكون فيها الإنسان مُخير ما بين طريقين اثنين: إما أن يسلك الطريق الأول منهما، فيستطيع أن يُحرر روحه من سجنها المادي ليلتحق بعالم النور ليكن بصحبة العظيم الأول إلى الأبد. أو أن يتحرك صوب الطريق الثاني فلا يرغب في ذلك التحرر من ربقة الجسد، وهكذا فإنه يظل منغمساً بكليته في سجنه المادي وعالم الظلام، وتظل روحه مُعلقة في دورة لا متناهية من الدخول في أجساد جديدة (التناسخ) المرة تلو الأخرى حتى تتمكن في النهاية من التطهر المطلق، ومن ثم تتمكن من التحرر من مكمنها في الجسد، والعودة إلى عالم النور ثانية. وتأسيساً على ما سبق ذكره، فإن رسالة ماني والهدف منها هو تهيئة الإنسان وإرشاده للوصول إلى عالم النور، وذلك عن طريق تقسيمه للبشر إلى فئتين من البشر: الفئة الأول: رجال الدين (المختارون): وهم فئة أخذت على نفسها أن تبتعد ابتعاد تام عن كل ما هو دنيوي مادي، فتشددت في الكثير من الأمور، فهي مثلاً قطعت على نفسها عهداً بتحريم أكل اللحوم، بل وتحريم صناعة الطعام وكافة الأمور المتعلقة بذلك، وكذلك مُحرم عليهم كل أشكال العنف مع كل ما هو حي. وحتى يتسنى لهم مواصلة العيش كان مسموحاً لهم فقط بتناول الأطعمة التي يقدمها لهم المستمعون في صورة قرابين، كما أنه مُحرم عليهم التكاثر والزواج حتى لا يساعدون في زيادة عالم الظلام ممثلاً في إنتاج المزيد من الأجساد المادية المحبوس في داخلها المزيد من عالم النور، وبالتالي تقليص عالم الظلام وتوسعة عالم النور.الفئة الثانية: المستمعون: وهؤلاء هم عامة الناس من المانيين، وكل ما هو مطلوب منهم فقط هو محاولة العيش وفقا لشروط ومبادئ المانوية، ومن ذلك أن يعيشوا بصورة معتدلة، أي أن يأكلوا ويشربوا ويتزاوجون ويتناسلون بصورة حكيمة، وكذلك إمداد المختارون بالمأكل والمشرب. وقد ظل تأثير ماني متواصلاً لفترة طويلة من الزمن، فتاريخ المانوية من بعده حافل يتطاول في كل من الناحيتين المكانية والزمانية؛ إذ أنه يَسطُر بريشته على المكان ولاسيما في يقاع عديدة من بلدان الشرق مثل الصين والهند وبعض البلدان العربية كما أنه يمتد زمنيا على حد قول بعض من المؤرخين العرب من أمثال ابن النديم والبيروني إلى حوالي القرن الثالث عشر الميلادي. فيكفي أن نقول بأنه على حد قول البعض: “أن ما بقي من ذكرى ماني هو ملفت للنظر للغاية إذ أنه بات مُقررا أنه وفقا لكل من الزرادشتية والمسيحية والإسلام فهو معتبرا لديهم بأنه أكبر هرطوقي ليس له مثيل في التاريخ، فأصبح إذا هدفا مرصودا للنقد لدى تلك الديانات لعدة قرون بعد ذلك” (4).

المراجع

(1) للمزيد عنه انظر: إفرام يوسف، الفلاسفة والمترجمون السريان، 133-136. كما أن تيموثي بيتيبيسي قام بترجمة الجزء الخاص بالمانوية عن السريانية إلى اللغة الإنجليزية في كتابه الرؤى الخمسة للمانوية من الكيفالايا. انظر: Timothy Pettipiece, Pentadic Redaction in the Manichaean Kephalaia (Leiden, 2009), 223-229.

(2) Pettipiece, Pentadic Redaction, 223-224. انظر أيضا: ابن النديم، الفهرست، 382.

(3) Pettipiece, Pentadic Redaction, 228-229.

(4) جيراردو غنولي، “ماني والمانوية”، ترجمة عبد الرزاق العلي، في كتاب موسوعة تاريخ الأديان الكتاب الخامس (الزرادشتية، المانوية، اليهودية، المسيحية) تحرير فراس السواح (دمشق: دار التكوين، 2016)، 69.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *